مقالات


أزمة اللغة والتقويم المستمر


التقيتُ مؤخراً بأحدِ أساتذةِ اللغة في إحدى الجامعات الفرنسية ، والذي لم يُخفِ تذمرهُ من ضَعفِ الجيلِ الجديدِ من طُلاب الجامعات في فرنسا؛ في المهارات الأساسية كالقراءة والكتابة ، حيثُ أكدَ أنَّ عدداً كبيراً من الطلاب الذين يدرسهم من مختلف التخصصات ؛ تتكررُ لديهم الأخطاء على مستوى الإملاء، وصياغة الجمل ، واختيار الأحرف الصحيحة .
والحقيقةُ أنَّ هذا الهَمَّ أصبحَ عالمياً ، فأساتذةُ اللغة الإنجليزية في بريطانيا على سبيل المثال يحذرون كذلك من ضعف طلاب الجامعات في اللغة ، مقارنة مع الأجيال السابقة ، والتي كان الضعفُ فيها لا يتجاوز المدارس الثانوية عادة .
وفي عالمنا العربي أصبحت الظاهرة أكثرَ تعقيداً ، فطلابُ الجامعات يعانونَ بشكلٍ واضحٍ من هذا الضعف ، وليس من المبالغة القول إن بعض الطلاب لا يكادُ يكتب اسمهُ الكاملُ بشكلٍ صحيح ، فقد يخلطُ بين حرفي الضاد ، والظاء ، كما لا يستطيع التفريق بين الهاء ، والتاء المربوطة ، أو بين السين ، والصاد.
وعلى مستوى الصياغة توجدُ مشكلةٌ كبيرةٌ لدى عددٍ كبيرٍ من طلاب الجامعات، فلديهم مُشكلةٌ واضحةٌ في تركيب الجمل بشكلٍ صحيح ، وقد يعجز الكثير من الطلاب عن كتابة خطاب صحيح ومفهوم إلى أستاذ المقرر ، أو رئيس القسم ، أو عميد الكلية .
السؤال الذي يدور الآن في الأروقة الأكاديمية بالجامعات هو لماذا هذا الجيل أضعف من الأجيال السابقة ، هل الخلل ، في المناهج والمقررات ، أم في الأساتذة ، أم في النظام التعليمي كاملاً ؟
الحقيقة أن ضعف الطالب في اكتساب المهارات الأساسية وحسب خبراء صعوبات التعلم يبدأ منذ المراحل التعليمية المبكرة ، وإذا لم يتم اكتشاف هذا الخلل ومعالجته مبكراً ، ستصبح المشكلة أكثر تعقيداً ، حيث مع تقدم الطالب في العمر تكبر معه حواجز نفسية واجتماعية كثيرة تؤدي إلى تفاقم المشكلة ، والتي تصل إلى المرحلة الجامعية وعندها يكتشف الأستاذ الجامعي أن هذا الطالب لا يمكن أن يستوعب المناهج الجامعية حيث لا يستطيع الكتابة والقراءة بشكل صحيح.
سؤال آخر يدور حالياً أيضاً في الوسط الأكاديمي ، وهو : هل الأستاذ الجامعي ملزم بتعليم الطالب مهارات أساسية كان من المفترض أن يكتسبها الطالب في المراحل التعليمية المبكرة ، على سبيل المثال معرفة الأحرف الهجائية ، وكتابة الهاء ، والتاء ، والضاد ، والظاء ، ونطقها بشكل صحيح ؟
بالطبع هذا ليس صحيحاً ، لأن المناهج والمقررات الجامعية وضعت لتتناسب مع مستوى تعليمي محدد ، وتوصيف المقرر لا يمكن أن يتضمن كتابة الأحرف الهجائية ، ونطقها بشكل صحيح ، إلا أنه أيضاً لا يمكن تجاهل هذه الحالات ، ويجب أن يتدخل المرشد الأكاديمي في الجامعات لحصر هؤلاء الطلاب ، وإلحاقهم بمحاضرات ودورات خاصة تقيمها كليات ومعاهد وأقسام اللغات ، لمعالجة هذه المشكلة الخطيرة .
ومع ذلك فإن هذا ليس الحل الأساس لهذه المشكلة ، حيث نعلم جميعاً أن هنالك مشكلة حقيقية في النظام التعليمي في المراحل التعليمية المبكرة ، ومع أن المجال هنا لا يتسع لشرح نظريات علماء التربية والقياس والتقويم مثل بنيامين بلوم ، ونيتكو ، وبراير وغيرهم ، إلا أنه من الواضح أن فكرة التقويم المستمر لم تطبق في مدارسنا بشكل صحيح ، ويحتاج الأمر إلى إعادة النظر بشكل كامل في هذا النظام ، حتى لو اضطررنا للعودة إلى أدوات القياس التقليدية مثل الاختبارات الشهرية ، والنهائية ، والتي أثبتت جدواها في تعليم الأجيال السابقة ، وإظهار الفروق الفردية بشكل واضح بين الطلاب ، على الرغم من وجود بعض السلبيات مثل زيادة نسبة المتسربين من المدارس ، واستخدامها بشكل غير عادل من قبل بعض المعلمين ، كما أن الاختبار يقيس أداء التلميذ في زمن معين ولا يقدم صورة صادقًة لمستوى تقدم التلاميذ ، ولا يكشف عن طبيعة تعلمهم.
لكن التجربة الميدانية ، والدراسات التي أجريت حول مستويات الطلاب تكشف وبجلاء ، أن نظرية التقويم المستمر تعاني من ثغرات خطيرة ، وقد تؤدي إلى خروج الطالب من المراحل التعليمية بنسبة ضئيلة جداً من التحصيل المعرفي ، ولا تقيس بشكل صحيح مستوى الطالب ، وقدرته على اكتساب المهارات الأساسية .
ولهذا أرى أنه يجب إعادة النظر في تطبيق هذا النظام في مدارسنا ، لأن الخطر لا يهدد الجيل الحالي فقط ، وإنما سيتسرب إلى الأجيال القادمة ، حيث أن الضعف في اللغة سيصل إلى المعلمين في التعليم العام ، وعندها ستكون عملية إصلاح النظام التعليمي شاقة جداً ، حيث سيستلزم ذلك إعادة النظر في مستويات المعلمين والمعلمات ، كما أن استمرار هذا الضعف يهدد بالتأكيد اللغة والهوية والثقافة العربية .
إن أولى مراحل إصلاح نظامنا التعليمي تبدأ بالاعتراف بوجود هذه المشكلة ، ثم وضع خطوات ومراحل لإصلاح النظام ، حيث أن هناك مخاوف حالياً من أمية تجتاح المجتمع، وهو ما يتطلب من وزارة التعليم ، والجامعات إجراء الدراسات ، ووضع خطط استراتيجية لإنشاء نظام تعليمي قوي ، يركز على إكساب الطلاب المهارات الأساسية ، ويواكب مستجدات العصر التقنية ، ولا يتجاهل التجربة الإنسانية الثرية في مجالات التربية والتعليم ، والقياس والتقويم.

د. محمد الشهري


كتاب الشهر


الحضارة

دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها


تحميل الكتاب